[b]طحن الأسد بأضراسه القوية آخر قطعة لحم من الهبرة الكبيرة التى ألقاها له مدربه وصديقه.. تثاءب وتمطى بجسـده العملاق ثم اسـتكان وأخلد للراحة وهو يرقب البانوراما البادية من بين قضبان قفصه.. كانت الريح تلهو وتتلاعب بكل ماخف وزنه من أغصان وأوراق وريشات طير، وكان الحفيف يتناهى إلى مسامعه من صفوف الأشجار القريبة.. طارت ورقة صحف عاليا والتفت مع الهواء فى دائرة كاملة كأنها طائرة ورقية ترقص رقصة الدراويش فى حلبة الجو الرحيبة.. انقضت الورقة لأسفل فجأة كالصقر واجتازت قضبان القفص إلى داخله وسقطت أمام الأسد القابع كأبى الهول.. نظر الأسد إلى الورقة الكبيرة بعينين زائغتين فى لا مبالاة.. تثاءب مرة أخرى وجال ببصره فيما حوله، ثم تسمرت عيناه على الورقة .. لوهلة بدا أنها نظرة غير ذات معنى كأنها استراحة للعينين، لكن بريقا ما دب فيهما أوحى بثمة تحول فى اهتمامات الغضنفر.. مد قائمته اليمنى وجذب الورقة وضبط وضعها أمام عينيه.. تزايد اهتمامه بالورقة واعتدل قليلا ليقرأ باهتمام وتمعن.. شىء ما فيما قرأ أثــار بعض كوامن نفـســه فنهض وراح يدور فى القفص رائحا غاديا وذيله يترعص فى الهواء فى مشهد يشى بشىء من السعادة أو على الأقل بشىء من راحة النفس.. وأخيرا هدأ ورقد على أرض القفص مرة أخرى وحدق بعيدا فى شىء لا تراه عيناه، وبدت على ثغره الضخم ابتسامة عريضة تنم عن الرضا والارتياح.. * * * * * انفتح باب خلفى ودلف إلى داخل القفص شاب وسيم وقوى البنية على نحو غير مألوف.. امتدت يد الشاب إلى رأس الأسد وداعب شعر لبدته وهو يقول : كيف حالك ياأسامة ؟ عندى لك خبر سار ! أفاق الأسد من أحلام يقظة كان غارقا فيها ونهض واستدار ليواجه المدرب.. ونظر إليه مبتسما وقال : ماذا عندك ياحلو؟ قال المدرب فى سرور واضح : خبر سار حقا.. بجد بجد.. غدا سياتى فريق من التليفزيون الفرنسى ليصور البرنامج.. إنها فرصة عظيمة لنا .. لابد أن نؤدى نمرتنا على أروع ماتكون.. إننى أعتمد عليك ياسبع البرمبة.. استرح اليوم لنتدرب صباحا ونبدع فى العرض مساء.. قال الأسد فى ظرف ودلال : ماشى ياحلو لكن لى عندك طلبا.. قال المدرب : كل طلباتك مجابة ياعزيزى.. لك أفضل قطع اللحوم وأكثرها طزاجة أيها الحبيب.. وبالمقادير التى تشتهيها كمان.. قال الأسد فى لوم ودلال : إيـيـيـيـه ؟ !!!.. هذا أمر مفروغ منه.. يعنى تحصيل حاصل ياسيد حلو.. وهناك أمر آخر لابد أن تعد بتحقيقه لكى أقدم أروع عروضى.. أنظر إلى هذه الورقة لتدرك ما أعنى.. خذ.. ودفع بالورقة فتناولها المدرب ومضى يقرأ : مؤتمر عام للأسود يُعقد فى مصر.. يعقد فى العشرين من نوفمبر بقاعة الملك خوفو بالجيزة مؤتمر عام لأسود مصر والعالم العربى، للتعارف وتوثيق العلاقات وإلقاء الكلمات عن أحوال الأسود وتجاربها العتيدة فى الحياة.. الدعوة عامة لكل الأسود , ولا يسمح بدخول غير الأسود.. ابتسم الحلو ابتسامة عريضة وراح ينقل بصره لبعض الوقت بين الورقة والأسد وأخيرا قال: غالى والطلب رخيص… بس الأول ورينى الهمة ! قال الأسد : ثقتك فى رجل.. فى أسد.. فى ملك الغابة وملك السيرك ! * * * * * إزاء العرض الباهر على نحو يفوق المألوف والدوى الإعلامى غير المسبوق لنمرة الأسد لم يكن أمام المدرب إلا أن يفى بوعده لصديقه أسامة ويسمح له بحضور مؤتمر الأسود.. وفى اليوم المحدد صحا أسامة مبكرا وبدا منشرح الصدر ومنتشيا كل الإنتشاء.. كانت تراوده مشاعر عظيمة ويسيطر عليه شعور خفى بأنه سيلتقى ـ حتما ولابد ـ ببعض أقاربه الذين انفصل عنهم منذ اقتنصه صياد أوربى وهو بعد شبل صغير يلعب فى أحراش جبال كينيا.. وجمح به الخيال فتصور أن أمه ماتزال على قيد الحياة وأنه سيلاقيها فى المؤتمر.. قفز فى صندوق السيارة وانطلق به المدرب وهو مايزال غارقا فى تأملاته وأحلامه، وبعد الرحلة غير الطويلة لم ينتبه إلى توقف السيارة إلا عندما فتح المدرب باب الصندوق وأطل عليه قائلا : هاااا.. لقد وصلنا.. أما زلت ترغب فى حضور المؤتمر ؟ أجابه الأسد فى حدة : بالطبع نعم !.. وهل كان الأمر مجرد هزار ؟ قال المدرب مبتسما : أنت وماتريد.. ها أنا أفى بوعدى، فلا تلمنى على أى أمر.. إنها المرة الأولى التى تتعامل فيها مع غيرى، فلتكن حكيما وتتحمل تبعات ذلك !.. هاهى قاعة المؤتمر هناك خلف تلك البوابة الكبيرة.. وأنا فى انتظارك هنا حتى تفرغ من المؤتمر.. قال الأسد وهو يحدق فى مدربه : لست أعلم ماترمى إليه بهذه الكلمات.. لكن دعنى أؤكد لك أننى لا أقدر على فراقك.. ولم أعد مؤهلا للحياة فى غير ذلك السيرك الذى هو بيتى وملاذى الوحيد.. إنه فقط الحنين إلى الماضى يدفعنى إلى ملاقاة بنى جنسى والتواصل مع ذكريات طفولتى.. قال ذلك وقفز فى خفة ورشاقة إلى الأرض ومضى يسير مختالا إلى البوابة بينما المدرب يتابعه بنظرات يحار المرء فى تفسير معناها… * * * * * هدأ وقع خطى الأسد وتعالت خيلاؤه وهو يقترب من البوابة الحديدية.. وتوقف أمام الشاب الأنيق المنتصب خلفها وقال : افتح ياهذا.. لقد جئت لحضور المؤتمر.. خاطبه الشاب وهو لا يكاد ينظر إليه وقال بنبرة فيها الكثير من التعالى : نعم !.. أفندم !.. ومن تكون حضرة جنابك ؟ قال الأسد مستغربا : من أكووون ؟.. ألا ترى ؟.. أنا الأسد ! قال الشاب فى ضيق : حسنا.. وأين مستنداتك ؟ قال الأسد فى استغراب واضح : مستنداتى ؟.. أية مستندات تقصد ؟ انحنى الشاب نحو البوابة المغلقة وقال بحدة : المستندات التى تثبت أنك أسد.. شهادة رسمية معتمدة تؤكد أنك أسد لنسمح لك بالدخول !.. هل الأمر واضح أم ترغب فى مذكرة تفسيرية ؟.. قال الأسد بلهجة تنم عن مزيج من الغضب والذهول : أية شهادة يافتى ها أنا أمامك أسد بشحمه ولحمه، فماذا تريد أكثر من ذلك ؟.. هل تمزح ؟ قال الشاب صارخا : ياعم أنا لا أمزح ولا أغازل.. أنا لا أعرفك ولم أراك من قبل، وأنت تقول لى أنك أسد وترغب فى حضور مؤتمر الأسود.. فأين مستنداتك.. كل أسد يجتاز هذه البوابة ليحضر المؤتمر لابد أن يحمل حول عنقه طوقا مثبتا به بطاقة معدنية مدموغة تحمل شهادة صحيحة معتمدة من الجهات الرسمية بأنه أسد.. فهل فهمت ؟ هل وعيت ؟ أم جئت للمناكفة وإضاعة وقتنا الثمين ؟.. تضاعف ذهول الأسد وقال بصوت مجلجل : وماذا ترانى ؟.. هل ترى أمامك كلب أم قط صغير ؟.. يا أخى ألا ترى ضخامة حجمى ؟ ألا ترى عضلاتى العظيمة ؟ ألا ترى أنيابى الحادة الكبيرة ؟.. ألا ترى هذه اللبدة الكثيفة التى نتميز بها نحن معشر الأسود ولا يتميز بها غيرنا ؟ طوح الشاب يديه فى الهواء من فرط الغضب وقال بصوت مدو : ياعم الحاج عضلات إيه وهباب إيه ؟.. طيب ماكل الحيوانات لها عضلات وكل حيوانات الغابة لها أنياب !.. والجاموسة فى منتهى الضخامة والخرتيت أضخم والفيل أضخم واضخم.. وكمان بعض أنواع القرود لها لبدة !.. أنا إيش عرفنى ؟ أنا ياعم موظف رسمى وأتعامل مع أوراق رسمية.. معاك شهادة تثبت إنك أسد تدخل.. مامعاكش آسف لا أستطيع إدخالك ولو كنت عمى !.. فضها سيرة يأخى وحل عنى !!! فى تلك اللحظة تقاطر بقية حراس البوابة إلى حيث زميلهم،وتدخل كل منهم بكلمة : ياأخى ماقالك ما يقدرش يدخلك.. إنت فاكرها مسألة سهلة.. فاكر العملية سايبة كده وأى واحد ممكن يسمح بدخول حيوان مجهول الهوية ؟.. فاكر إنك بمجرد ماتقول أنا أسد تبقى أسد من غير هوية ولا أوراق رسمية ؟ فاكر إن أى واحد لا تعب ولا سهر الليالى ولا كلف خاطره فى تحصيل شهادة تثبت هويته يقدر ينتحل شخصية أسد ؟.. هل سيادتك قدمت أطروحة تؤكد باسانيد علمية ومراجع معترف بها إنك أسد ؟.. هل سيادتك ناقشت الأطروحة وثبت بالدليل القاطع أمام لجنة المناقشة أنك أسد وينطبق عليك الاسم العلمى اللاتينى بانثيرا ليـو.. ولا بس واخد المسألة فهلوة وعافية وعاوز بأى طريقة تبقى أسد وخلاص؟.. أصيب الغضنفر بالذهول ولم يحر جوابا أمام هذا المنطق الغريب.. سكت برهة والغضب يشتعل بين جوانحه، ثم تمالك نفسه وقال : فين السيد مدير القاعة أو رئيس المؤتمر ؟ أريد التحدث إلى أحدهما… جاءه الرد عاجلا فى برود : مدير القاعة لم يحضر بعد ؟ وحين يحضر ستراه لأن سيارته ستدخل من هذه البوابة.. خدمة أخرى؟.. مزيد من الإستفسار ؟ قال الأسد فى رضوخ : لا شكرا.. سأنتظر هنا حتى يحضر.. قال أحدهم فى صفاقة : ماشى بس من فضلك ابتعد عن البوابة لأن الأسود المحترمين سوف يصلون خلال دقائق ويدخلون من هنا.. * * * * * انثنى الغضنفر مبتعدا، لكنه لم يكد يقطع بضع خطوات حتى شاهد عربة ?ان سوداء تقف غير بعيد ويهبط منها حمار ويسير الهوينا متجها نحو البوابة .. حدق حارس البوابة الأنيق بتمعن فى الطوق المعلق برقبة الحمار وقال فى ترحاب شديد : أهلا وسهلا.. تفضل سيدى الأسد.. وأدار الشاب المفتاح فانفتحت البوابة ودلف الحمار قبل أن يسارع الشاب بغلقها. انتفض أسامة وقال يحدث نفسه بصوت خفيض والدهشة تعقد لسانه : ماذا ؟!!! وعاد إلى البوابة مسرعا يسأل فى لهفة : ما هذا ؟ من ذلك الذى دخل ؟ أجابه الشاب ساخرا : من ذلك ؟ وماشأنك أنت لتسال ؟.. ومع ذلك دعنى أجيبك.. ألم تر طوق عنقه ؟ ألا تعرف ماهو مدون على البطاقة المعدنية ؟ حسنا.. دعنى أخبرك : مدون عليها أنه أسد.. أسد حقيقى بأوراق رسمية، مش أسد عيرة.. إنفجر سيد الغاب وقال فى هدير جبار : أسد إيه ونيلة إيه دا حمار.. من أنتم ؟ بهائم ؟ ألا تميزون بين الأسد والحمار، أم أنها مباراة فى الاستعباط.. هب رجال البوابة إلى جوار زميلهم الأنيق مرة أخرى وانطلقوا فى فاصل كورالى من الردح الأوبرالى : استعباط إيه وسفالة إيه ؟.. احفظ أدبك ياسيد.. إحنا ناس نلتزم بالقانون ونتعامل معك ومع غيرك بالأوراق الرسمية.. وسيادة الأسد معه ما يثبت أنه أسد لذلك سمحنا له بالدخول.. فلا تتطاول على جنابه وتزعم أنه حمار.. خصوصا وأننا بدأنا نشك فى أنك أنت اللى حمار لأنك لا تريد أن تفهم !!.. استشاط الأسد غضبا إثر هذه الكلمات وأطلق زئيرا مرعدا ارتجت له الأرض واهتزت قضبان البوابة.. ولم يكن الحمار قد بلغ نهاية الممشى المؤدى إلى مبنى القاعة فتوقف وأصابه الشلل برهة حين سمع الزئير المجلجل.. ثم انبثقت داخله حواسه البرية وثارت فى عروقه غريزة البقاء فانطلق لا يلوى على شىء واختفى داخل المبنى.. وكان لمشهد هروب الحمار وقعا طيبا على الأسد فهدأ قليلا والتفت إلى حارس البوابة قائلا : أرأيت أيها الشاب.. أهذا أسد.. أهناك أسد يفزعه زئير الأسود ؟.. أما زلت مصرا أنه أسد ؟.. فرد الشاب فى وقاحة : لقد سارع بالدخول إلى القاعة لأنه لا وقت لديه يضيعه.. أما كونه أسد فهو أسد كابرا عن كابر وبشهادة معترف بها.. وأما كون الصراخ الذى أطلقته زئيرا، فهذا مالم نسمع به من قبل، لأن الزئير لا يكون إلا للأسود وأنت لست بأسد.. لا تؤاخذنى أنتاااااااا.. لكن لا داع.. غلبت حاسة الكوميديا على الأسد فأفلتت منه ضحكة ونظر إلى الشاب الأنيق بعينين بهما بريق من نوع غريب، ثم تحول ليبتعد عن البوابة دون أن ينبس ببنت شفة… * * * * * اتخذ أسامة موقعا له فى ظل شجرة كبيرة واستدار قليلا ليتفادى سقوط أشعة الشمس على عينيه، وأوشك على الرقود طلبا لراحة الأعصاب لولا أن حركة غير عادية ردت عليه تحفزه وانتباهه.. نظر إلى البوابة فشاهد سيارة فخمة تتقدم نحوها وتتوقف على بعد سنتيمترات فقط منها.. نزلت من مقعد القيادة فتـاة ترتدى ملابس زاهية الألوان تحتبس بداخلها تضاريس جسدها الفينان.. اندفعت الأنثى نحو الباب الخلفى للسيارة وشعرها المصبوغ باللون الذهبى يتطاير كألسنة اللهب فى الهواء.. فتحت الباب وهى تقول : ياللا ياحبيبى.. أوعى تكون يا ميكى نسيت الطوق والبطاقة ؟ لكنها ردت على نفسها وميكى يترجل من السيارة : لأ الحمد لله أهم.. ياللا خُش على البوابة وورى لأونكل مستنداتك.. انتفض الأسد أسامة بشدة وهز رأسه بعنف لعله يفيق من ثمة كابوس يعانيه.. لكن المشهد الماثل أمامه لم يتغير , إنها الحقيقة وقسوة الواقع ولا شىء غير ذلك تقدم نحو البوابة بينما كان ميكى يعبرها بجسده الهزيل وخطاه الناعمة وينطلق نحو مبنى القاعة.. خاطب أسامة الحارس فى نبرات تشى بالذهول والاستنكار قائلا : ــ ماذا ؟ كلب ؟.. كلب مدلل ؟.. أهذا فى عرفكم أسد أيضا ؟ أجابه الحارس بعينين جاحظتين من فرط التحدى والتبجح : نعم أسد.. شبل.. يعنى أسد شاب.. ونحن نشجع الشباب ونرحب به.. ألديك اعتراض ياجناب الحاقد ؟ قال أسامة فى هدوء غير متوقع ولكن بلهجة تنم عن الاستنكار الشديد : أتضحكون على أنفسكم، أم علينا ؟.. هل بكم مسا من الجنون ؟.. أكونشى غلطت وجيت العباسية ؟.. السراية الصفرا يعنى أو العصفورية بأى لهجة تشاء ؟.. احتد الشاب وقال فى غضب عارم : شوفوا قلة الأدب والسفالة !.. إنت حكايتك إيه فى يومك الأغبر اللى مش فايت ؟ !!!.. ياعم قلنا لك إن المسالة مسألة شهادات ومستندات.. الأوراق الرسمية يا حبيبى لا تكذب ولها موثوقية عالية !.. أنت لا تفهم ذلك لأنك همجى متخلف غير مؤهل لقيم ومعايير الحضارة.. وهذا الذى دخل لتوه ليس كلبا بل هوأسد شاب زاخر بالقوة والفتوة.. الشهادة المثبتة فى طوق الرقبة تقول هذا ونحن لا نعرف غير المستندات ولا نعترف بشىء غيرها.. أما الآراء الخاصة القائمة على السمع والمشاهدة فهى مجرد أحكام شخصية تخضع للأهواء وتختلف من شخص لآخر ولا تستند للطريقة العلمية.. افهم بقى وحل عنا يرحم والديك.. قال ذلك وأشاح بوجهه وتحول عن البوابة ليتناول زجاجة المشروب الغازى من زميله ويصبها فى جوفه دفعة واحدة، بينما الأسد أسامة ينسحب فى هدوء مصطنع ليقبع مرة أخرى تحت ظل الشجرة الآخذ فى التقلص بسرعة كبيرة.. * * * * * بدا أسامة لمن يراه رابضا فى هدوء وسكينة , لكنه فى حقيقة الأمر كانت تضطرم فى نفسه مشاعر غريبة وتعتمل فى عقله أفكار شتى.. وراح يسأل نفسه عن الفرق بين هؤلاء البشر الذين ينكرونه وجمهور السيرك الذى يصفق له ويعبر عن أشد الإعجاب، هل هم من طينة واحدة؟ هل لهم نفس العقول؟.. هل؟هل؟وألف هل؟ وتمادت به الأفكار ودوامة المشاعر أكثر وأكثر ونسى نفسه تماما ولم ينتبه إلى تحول الظل عنه تاركا إياه لأشعة الشمس الحارقة تلفح جسده الهرقلى الجبار.. لكنه انتبه فجأة إلى صوت دراجة نارية قادمة من بعيد.. انتشل نفسه من دوامة الأفكار وراح يتابع الدراجة النارية وهى تقترب وكانت من ذلك النوع القديم المزود بعربة جانبية.. حاول أن يتعرف على ماهية شاغل العربة لكنه لم يستطع حتى أوقفها السائق بمحاذاة البوابة وترجل شاغلهـا فإذا به تيس.. تيس أبيض بلحية طويلة وعلى رأسه قبعة وعلى عينيه نظارة شمسية سوداء.. نهض أسامة على الفور وهو يقول لنفسه : يا للكوميديا السوداء ؟.. دلف التيس من البوابة وأعاد الحارس إغلاقها بسرعة وعينه على الأسد الذى نهض من مربضه وراح يتقدم نحوه. بلغ الأسد البوابة ورفع برثنه ولطمها بحركة مفاجئة لطمة قوية جعلتها ترتج بشدة ففزع الحارس وقال فى انزعاج واضح : ماذا تفعل ياااا.. ؟ ماذا تقصد يا هذا؟.. ألن تكف عن تطفلك السمج؟!! أجاب الأسد فى صوت عميق يحمل رنة الأسى : أهذا الحزين الذى دخل أسد أيضا؟ قال الشاب وهو يتحاشى النظر إلى عينى الأسد الحمراوين اللتين يتطاير منهما الشرر : نعم أسد، طالما كان يحمل مؤهلات الأسد ومستندات هويته.. قال أسامة والدماء تفور فى عروقه : إنت عبيط ولا بتستعبط ؟.. الذى دخل هذا تيس ابن تيس.. ما بقاش غير المعيز كمان تعتبروها أسود.. ماذا تريدون؟ إهانة جنسنا والسخرية منا ؟.. أما زمن عجيب حقا !!! قال الحارس ساخطا : كفاية بقى.. تيس إيه وقلة أدب إيه ؟.. ده أسد غصب عنك وعن اللى جابوك.. وبقولك إيه بقى.. يا تحِل عنا ياتاكل بالجزمة.. ما شأنك أنت بمن يدخل ومن يخرج، أنت لا أسد ولا حصلت قرد حتى !!!.. وكأنما كانت تلك الكلمات القشة التى قصمت ظهر الأسد وفجرت بركان الغضب الكامن بين جوانحه ففغر فاه وقال بصوت مرعد : أنا ياابن الكلب ؟.. سأريك إذن إن كنت أسدا أم شيئا آخر.. وارتد للخلف فجأة بضعة أمتار ثم اندفع إلى الأمام بسرعة ووثب وثبة عملاقة اجتاز بها البوابة.. فوجىء الحارس بالأمر وأصابه فزع هائل فسحب مسدسه وسدده نحو الأسد المقتحم.. فى لمح البصر استدار الأسد وانحرف جانبا ليتفادى الخطر.. ضغط الحارس الزناد فمرت الرصاصة بين شعر لبدة الأسد وأصابته بجرح سطحى.. واصل الأسد اندفاعته نحو الحارس ولطمه ببرثنه لطمة جبارة جعلت رأسه يتحطم على حديد البوابة وأطاحت بالمسدس إلى الخارج.. قفز الحراس الآخرون من مقاعدهم القريبة وسارعوا بالإختفاء داخل الغرفة الملحقة بالبوابة، بينما استدار الأسد ليلحق بالتيس الذى كان فى تلك اللحظات يصعد درج مبنى القاعة ويوشك على الدخول إليها.. أطلق الأسد زئيرا عظيما فتجمد التيس فى موضعه على الدرج.. اندفع ولحق به وتناول عنقه بين فكيه وطوح به فى الهواء فطار كالكرة وسقط أسفل السلم جثة هامدة.. اقتحم الأسد الباب ودخل إلى القاعة وزئيره يصم الآذان ودارت مجزرة عظيمة استهلها بقتل الحمار والكلب ثم انثنى إلى سائر الحيوانات التى وفدت قبل وصوله والتى لم يكن من بينها أسد أوشبل أوحتى قط صغير واحد !!.. واختلط صوت الزئير العظيم بصوت صراخ الحيوانات المستغيثة دون أن يجيبها مجيب !! * * * * * فى مساء ذلك اليوم أطلت مذيعة نشرة التاسعة بوجه ممتقع وقالت بنبرات تشى بمزيج غريب من الإنزعاج والاستغراب الشديدين : جاءنا مايلى.. قام قبل ظهر اليوم حيوان برى غريب الهوية يُعتقد أنه مصاب بداء الكَلِبْ بالهجوم على مؤتمر الأسود المنعقد بقاعة الملك خوفو، وقام يدفعه حقد عظيم بقتل جميع الأسود المشاركة فى المؤتمر وقتل حارس البوابة. ويعتقد أن المجرم استعان فى تنفيذ المجزرة بسلاح نارى، فقد أكد لنا مراسلنا أن سكان المنطقة سمعوا دوى طلقات نارية تتردد فى نطاق مبنى القاعة، ويؤكد هذه الرواية ما ذهب إليه الخبراء الأمنيون من أن المجرم لم يكن بمقدوره مواجهة أسد واحد من الشهداء بغير الإستعانة بسلاح نارى. هذا وتؤكد السلطات المختصة حرصها على مطاردة ذلك الحيوان المسعور الذى اختفى من المنطقة عقب تنفيذ المجزرة الرهيبة.